- نموذج فيشر
لا يختلف النموذج الذي وضعه فيشر Fischer لتفسير نمو القدرات المعرفيةاختلافا كبيرا عن نموذج كيس.ولعل أهم ما يجمع بينهما هو الاتفاق حول المصادرة التي تقولإن ما يمكن للطفل أن يتعلمه في مرحلة معينة من مراحل العمر لا يتجاوز بعض الحدود. وأما الفرق الجوهري بينهما فيعود إلى اختلاف تصوراتهما للعوامل التي ترسم للقدرة على التعلم حدودها.فبينما يرى كيس أن الذاكرة القريبة المدى هي العامل الأساسي الذي يحدد ما يمكن للطفل أن يتعلمه، يعتقد فيشر أن درجة تعقد بنية المهارات، أو مستواها الأمثل optimal level، هي التي ترسم للتعلم لدى الطفل حدوده القصوى الممكنة..  
إن ما يميزنظرية فيشر هو عدم فصلها النمو عن التعلم. فقد كان بياجيوالبعض ممن ساروا على نهجه يفصلونعمليات النمو عن عمليات التعلم، ويركزون في بحوثهمعلى عملية النمو لاعتقادهم أن النمويسبق فعل التعلم ويوفر الشروط الضرورية لتحقيقه،وكأن التعلم لا يؤثر بدوره في عملية النمو. إن فصل النمو عن التعلم يدل على عدم اعترافهم بأهمية الدور الذي يلعبه العامل الاجتماعي في عملية النمو.
وكرد فعل ضد هذا التوجه اقترح فيشر ومجموعته نظرية أطلقوا عليها اسم «نظرية المهارات»skill theory، وهي نظرية تجمع بين النمو والتعلم.عبر فيشر Fischer وزميله بيب Pipp عن رأيهما في هذه المسالة بقولهما: «إننا نؤكد في عرضنا لنظريتنا على أن التعلم لا يتعارض مع النمو، كما أنعوامل المحيط لا تتعارض فيها مع العوامل المتصلة بالوحدة العضوية [ للفرد]. إننا لا نضع التعلم في مقابل النمو, ولكننا نتعامل معهما على أنهما مترابطان بصورة لا انفصام فيها»(Fischer and Pipp. 1984 , p.46). إن تنامي العمليات المعرفية في نظر هؤلاء الباحثين هو نتاج التفاعل بين عوامل المحيط والعواملالذاتية. ويرتكز تفسيرهم للنمو على مفهومين أساسيينتمت صياغتهما في ضوءأطروحة التفاعل بين الفرد والمحيط،، وهما: مفهوم المستوى الأمثل optimal level ومفهوم اكتساب المهارات skill acquisition.
2-2-1- نمو المهارات
يدل مفهوم المستوى الأمثل على الدرجة القصوى التي يمكن أن يصل إليهامستوى تعقد المهارات التي يمكن التحكم فيها،ولا يمكن بلوغ المستوى الأمثل إذا كانت ظروف المحيط لا تساعد الفرد على استثمار طاقاته إلى أقصى حد ممكن. وأما عملية اكتساب المهارات فتشير إلى القواعد التي تستخدم لتحويل مهارة معينة لجعلها أكثر تعقيدا وفعالية من خلال ربطها بمهارات أخرى.تأخذ المهارات، من وجهة النظر هذه، شكل بنية دينامية متحولة، تتحرك فتتحرك معها عجلة النمو والتعلم.
وأما المبادئ التي تتحكم في دينامية بنية المهارات فهي:التعويضsubstitution، والتركيزfocalisation، والتأليف compounding، والتمييز differentiation، والتناسق المتبادل intercoordination. ويعتبرفيشر وزملاؤهمبدأ التناسق المتبادل هو المسئول الأول عن نقل بنية المهارات من مستوى معين إلى مستوى أكثر تعقيدا. إن هذا المبدأ هو الذي يحدد كيفية التأليف بين المهارات المكتسبة للحصول على بنية جديدة أكثر تعقيدا وفعالية. وتدلنا المبادئ الأخرى، في نظرهم، على المراحل الفرعية التي تمر بها بنية المهاراتخلال كل مرحلة من المراحل النمائية الكبرى. تقوم هذه المبادئ مقام اللامتغير الوظيفي functional invariant في نظريتهم Fischer and Pipp. 1984 , p.46)).
تتحكم المبادئ الخمس السابقة الذكر في عملية اكتساب المهارات وتحويلها، وتحدد مسار نموهاوالمراحل الكبرى والصغرى التي تمر بها. وتجدر الإشارة إلى أن الأفراد الذين ينتمون إلى نفس الفئة العمرية لا يتوفرون بالضرورة على نفس المهارات،ولذلك يتحركون خلال سيرورتهم النمائية في اتجاهات مختلفة. ومعنى ذلك أن النمو لا يسير دائما في اتجاه خطي تصاعدي كما يعتقد بياجي. وما يدل على ذلك، في نظر فيشر، هو كيفية تعاقب مراحل النمو الفرعية التي تتخلل المراحل النمائية الكبرى المطابقةلمراحل العمر. فقد لاحظ فيشر وجود فروق جوهرية في كيفية تفاعل الأفراد الذين ينتمون إلى نفس الفئة العمرية مع موضوع معين، وتبين له أن طريقة معالجة المعلومات تختلففي تفاصيلها من فرد إلى آخرفي سياق كل مرحلة من المراحل النمائية الفرعية. ويعتبر هذا الاختلاف من أهم مظاهر الفروق الفردية.يفسر فيشر الفروق بين الأفراد في النمو والتعلم بمجموعة منالمتغيرات الشخصية ومتغيراتالمحيط الاجتماعي. ويؤدي التفاعل بين هذه المتغيرات إلى تشعب مسالك عملية النمو، وتسير في اتجاهات مختلفة.ومن هذا المنطلق عرف فيشر وزميله كندي النمو  بأنه:(Fischer and Kennedy, 1997, p 118)  :
» كل نوع من أنواع التغير المنتظم، ولا يشمل فقط التصاعد أو التراجع في اتجاه خطي، بل يشمل أيضا الأنماط المعقدة كالتذبذب بين نقطتين أو الارتقاء الذي يظهر عبر سلسلة من القفزات والكبوات «
ولعل ما يدعم هذه الفكرة هو التنوع الملاحظ في سلوك الأفراد الذين يعالجون نفس الموضوع، والاختلاف الكبير في الأفكار التي يشكلونها عنه. يرى فيشر أن المفاهيم العامة، كمفهوم القدرة أو الكفاية، لا تعكس ذلك التنوع. إن مفهوم القدرة لا يسمح بالتمييز في الأداء بين عدة مستويات بشكل دقيق، ويرجع السبب في ذلك إلى صعوبة التمييز في القدرة ذاتها بين مستويات عديدة ومتنوعة. وعلى العكس من ذلكيمكن التمييز في المهارة بين عدة مستويات، ومن ثمة يمكن إقامة علاقة بين مستويات الأداء ومستويات المهارة، بحيث يمكن القول إن مستوى الأداء يتحدد بالمستوى الذي يقف عنده الفرد في استخدامه للمهارة التي يوظفها لمعالجة مهمة معينة.
وبالإضافة إلى ذلك فإنه غالبا ما تكون المفاهيم العامةالمستخدمة لوصف السيرورة النمائية مضللة بسبب اختزالها الشديد للواقع وإغفالها للتفاصيل. لذلك يبدو النمو وكأنه يسير في اتجاه خطي تصاعدي عندما يصفه الباحثون في ضوء المفاهيم العامة، وعندما تؤخذ التفاصيل بعين الاعتبار يبدو مساره متعرجا ومتشعبا. يمكن القول بعبارة أخرى إنه عندما يجري التحليل على مستوى المقولات العامة يبدو النمو كما لو كان يسير في اتجاه خطي تصاعدي، وعندما يجرى التحليل على مستوى السلوك الفعلي بأبعاده المتعددة والمتنوعة يبدو مساره متشعباوغير خطي. يستعمل فيشر صيغة بلاغية خاصة عندما يتعرض لوصف النمو المتشعب المسالك كبديل عن الصيغة التقليدية التي تشبهه بالسلم، حيث شبهه بنسيج الشبكة وأغصان الشجرة للتأكيد على ديناميته المتذبذبة ومده وجزره في كل مرحلة من مراحل العمر. يدل هذا التشبيه على أن الفرد يمر خلال كل طور من أطوار النمو بعدة مراحل مختلفة ومتزامنة، تعكس كل مرحلة منها درجة تعقد المهارات المستخدمة لمعالجة المهام المرتبطة بحقلمعين من الحقول المعرفية التي يتمتع كل واحد منها بنوع من الاستقلال النسبي الذي لا يلغي التقاطع مع غيره من الحقول الأخرى. بإمكان كل مدرس أن يلاحظأن مستوى نمو المهارة التي يوظفها التلميذ لمعالجة القضايا المرتبطة بمادة دراسية معينة قد يختلف عن مستوى نموهافي مجالات دراسية أخرى،يبدو التلميذ وكأنه ينتقلمنمرحلة عمريةإلى أخرىعندما ينتقل من مادة دراسية إلى أخرى. يدل ذلك على أن وتيرة النمو تختلف باختلاف المجالات المعرفية، ويدل أيضا على أن طبيعة الموضوع تؤثر في بنية المهارات، كما يدل على أن المشكلة لا تكمن فقط في القدرة على نقل المهارة من حقل إلى آخر، ويدل أخيرا على أن «العقل ليس وحدة كلية، ولكنه يتكون من أجزاء مستقلة»Fischer and Kennedy. 1997. p. 123))، بحيثيمكن التأليف في كل وضعية متميزة بين بعض العناصر أو الأجزاء لتشكيل بنية جديدة من المهارات تكون على درجة معينة من التعقيد.
.يشبه فيشر وكندي مسالك النمو بشبكة نسجت من الحبال. يتكون كل حبل منها من مجموعة من الخيوط المجدولة. تمثل الخيوط فيها المهارات، وتمثل الجديلة بنيتها،وترتبط كل جديلة من جدائل الشبكة بمجال معين من مجالات النشاط المعرفي. تدل كل جديلة على مجموعة من المهارات التي تنمو كل واحدة منها عبر سلسلة من المراحل. وفي كل مرحلة جديدة من المراحل النمائية يعاد تركيب العناصر، وتدمج البنية السابقة في البنية الجديدة بطريقة متراتبة وفقا لما تنص عليه نظرية كيس Case تماما. وكذلك يمكن الحصول على بنية أكثر تعقيدا من خلال الجمع بين جديلتين مما يؤدي إلى ازدياد فعالية الفرد في معالجة المهام المتصلة بحقل معين من الحقول المعرفية. وعلى إثر ذلك تحصل الطفرة في النمو
وتحصل الطفرات أيضا في الحالات التي تكون فيها البنيات مستقلة عن بعضها البعض ومتفاوتة في درجةنموها بسبب انتمائها إلى مختلف المجالات المعرفية.ليس من المستبعد، إذن، أن يطرأ التحول في مختلف البنياتفي نفس الفترة الزمنية، وذلك على الرغم من التفاوت الموجود في درجة نمو مختلف المهارات التي تندرج في تكوينها. ولكن هذه الطفرات المتزامنة تأخذ أشكالا عديدة ومتنوعة كالتشعب، وتغيير الاتجاه، والاندماج.يدل التنوع في شكل الطفرات على التباين الموجود بين مختلف الحقول المعرفيةفي كيفية تنظيم المهارات، كما يدلعلى أن المهمة المعرفية تؤثر في المهارة وتحدد مستوى نموها.
تميز نظرية المهارات في السيرورة النمائية بين ثلاث مراحل كبرى أو ثلاثة أطوار: الحسي-الحركي، والتمثلي، والتجريدي. وفي كل طور من هذه الأطوار تمر المهارة خلال نموها بعدة مراحل،وتزداد درجة تعقدها كلما انتقلت من مرتبة إلى أخرى. وتشتمل الأطوار الثلاثة على عشر مراتب، وتمثل المرتبة الأخيرة في كل طور بداية الطور الموالي.
فخلال المرحلة الحسية-الحركية،التي تمثل الطور الأول في السيرورة النمائية، يكون الطفل في البداية قادرا على إدراك وفهم سلوك بسيط واحد، ثم إنه لا يلبث أن يكتسب القدرة على ربط هذا السلوك بسلوك آخر بسيط ليألف منهما وحدة سلوكية متميزة. وخلال المرحلة الثالثة من الطور الأول يكتسب القدرة على التأليف بين الوحدة السلوكية السابقة ووحدة سلوكية أخرى في إطار نسق متكامل من الوحدات السلوكية الحسية-الحركية. وفيالمرحلة الأخيرة من هذا الطور يصبح قادرا على التأليف بين مختلف الأنساق السلوكية الحسية-الحركية ليشكل نسق الأنساق الذي يدل على أنه استبطن مختلف أنواع السلوك الحسي-الحركي وحولها في ذهنه إلى تمثلات. فعندمايتمكن من إدراك العلاقة بين سلوك الطبيب وسلوك المريض، مثلا، يتمثل دور الطبيب. يحصل هذا الأمر في حوالي السنة الرابعة أو الخامسة من العمر.
ويلج الطفل طوره النمائي الثاني في حوالي السنة السادسة أو السابعة من العمر، عندما يكتسب القدرة على الجمع بين تمثلين. ويستمر في التأليفبين التمثلات على نحو تصاعدي، وتزداد درجة تعقد المهارات أكثر فأكثرإلى أن يتشكل نسقمتكامل من التمثلات. وفي المرحلة الأخيرة من الطور الثاني يؤلف بين أنساق التمثلات ليبني نسق الأنساق الذي يضاهي المفهوم المجرد.يحصل هذا التحول في حوالي السنة العاشرة أو الثانية عشرة من العمر.
وينطلق طور التجريد في حوالي السنة الرابعة عشرة أو السادسة عشرة من العمر عندما يكتسب الفرد القدرة على الربط بين المفاهيم في إطار نسق مجرد. ويبلغ التجريد درجة عالية في نهاية الطور الثالث عندما يتشكل نسق الأنساق المجردة الذي يدل على قدرة الفردعلى إدراك المبدأ المنظم للوقائع التي تختزلها المفاهيم. يحصل هذا التحول في حوالي الرابعة والعشرين أو السادسةوالعشرين من العمر(1983; (Fischer and Pipp. 1984 ; Fischer Hand and Russel.
يمكن القول بصفة عامة إنه كلما ازدادت درجة تعقد المهارات وبلغت حدها الأقصى في نهاية كل طور إلا وحصلت الطفرة التي تنقل الفرد من التمثل إلى المفهوم، ومن المفاهيم إلى المبدأالعام المنظم للمعلومات.وتجدر الإشارة إلى أن تحديد المراحل الزمنية قدتم في ضوء نتائج البحوث الميدانية التي أجريت على عينة من الأفراد الذين ينتمون إلى الشرائح الوسطى من المجتمع الأمريكي.
 والملاحظ أن مراحل النمو التي كشف عنها فيشر تشبه إلى حد كبير المراحل التي وصفها كيس Case. ولكن التشابه بينهما يقف عند هذا الحد. هناك في العمق اختلاف جوهري بينهما فيما يتعلق بتصوراتهما لآليات النمو. فبينما يرى كيس أن السيرورة النمائية تتوقف على تنامي الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى، يعتقد فيشر أن دينامية النمو تتحدد قبل كل شيء بالقدرة على تنظيم السلوكات والمهارات. وبينما يرى كيس أن المهارات تظل ثابتة بعد تشكلها، يؤكد فيشر على أن عملية تشكل المهارات هي عملية مستمرة لا تتوقف في أية مرحلة من المراحل النمائة إلى أن تصل إلى الحدود القصوىالتي يرسمهاالمستوى الأمثل في كل طور.
2-2-2- مستوى النمو الأمثل
يتبين في ضوء نموذج فيشر أن بنية المهارات تسير خلال مراحل نموها بوتائر متفاوتة في اتجاهات مختلفة. ولا يحصلالنمو في إطار هذا النموذج بطريقة تلقائية،على عكس ما يوحي به نموذج كيس،لأن بنية المهارات تخضع في سيرورتها النمائية لتأثير مجموعة من العوامل العاطفية-الوجدانية، وتتحدد بمدى قوة الحوافز ومقدار الدعم الذي يتلقاه الفرد من الوسط الذي يعيش فيه. تساعد هذه العوامل على الزيادةفي وتيرة النمو،وتحدد موقع الفرد فيما يسميه فيشر وزملاؤه بمدى النمو development rangeالذي يتراوح بين الحد الأدنى الذي يدل عليه مفهومالمستوى الفعلي functional level  والحد الأقصىالذي يدل عليه مفهوم المستوى الأمثل optimal level.
ومن هذا المنطلقعرف فيشر مدى النمو بأنه المسافة الفاصلةبين المستوى الفعليوالمستوى الأمثل لنمو المهارات في مجال معين من المجالات المعرفية خلال مرحلة معينة من مراحل العمر. ففي ظل الشروط المثلى بفصح سلوك الطفلعن الحد الأقصى الذي وصل إليه نمو قدراته العقلية ومهاراته. ويرتفع مستوى الأداء ليصل إلى حدوده القصوى الممكنة عندما يجد الطفل من يوجهه ويساعده على التعلم، ويدعم مبادراته وسعيه إلى تحقيق أهدافه،وعندما يكون قد اعتاد على العمل وأصبح قادرا على تنفيذ المهامبكيفية فعالة بسبب كثرة الممارسة وقوة الحوافز.
يدل مفهوم المستوى الأمثل على أقصى ما يمكن للطفل أن يحققه من إنجازات في ظل الشروط المثلى.ويدل مفهوم المستوى الفعلي على ما يمكنه إنجازه في غياب هذه الشروط، أي في الظروف العادية. يدل مفهوم المستوى الأمثل إذن على الحد الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه درجة تعقد المهارات في الظروف المساعدة؛ويدل مفهوم المستوى الفعلي على الحد الأقصى الذي يصل إليه نمو المهارات في الظروف العادية. ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن مفهوم النمو الأمثل هو مفهوم مشتق من مفهوم «منطقة النمو القريب المدى»the zone of proximal development  الذي بلوره العالم السوفياتي فيكوتسكي قبل عدة عقود خلت(Vygotsky, 1978; Fischer Bullock. Rotenberg and Raya, 1993 )
يؤدي مفهوم المستوى الأمثل وظيفة أساسية في نظرية المهارات. يقوم هذا المفهوم مقام المؤشر الذي يدل على طبيعة النمو ومراحله في نظرية فيشر، ويستعمل باعتباره المعيار الذي يبين ما إذا كان الفرد قد انتقل بالفعل إلى مرحلة نمائية جديدةأم أنه لازال حبيس المرحلة التي يوجد فيها.وتكمن أهمية هذا المفهوم أيضا في أنه يأخذ بعين الاعتبار عوامل المحيط،ويبرز دورها في تحديد وتيرة النمو وفي حدوث الطفرات. فعندما يعتاد الفرد على العمل في الظروف المثلى يرتفع مستوى الأداء ليصل إلىحدوده القصوى، وترتفع وتيرة النمو تبعا لذلك، وتحصل الطفرةفي النمو بعد فترة قصيرة نسبيا، ويرتفع المستوى الأمثل لينتقل إلى الأفق الجديد الذي يتجه إليه بصره. وعندما يكون مستوى الأداء مطابقا للمستوى الفعلي أو غير بعيد عنه تتباطأ وتيرة النمو، ويحصل التغير بطريقة تدريجيةعلى امتداد فترة زمنية طويلة نسبيا. وخلال الفترة التي يتجدد فيها المستوى الأمثل تميل بنية المهارات إلى التغير بسرعة في الحقول المعرفية المألوفة. وعندما يتجدد المستوى الأمثل ويصبح قائما بالفعل تتباطأ وتيرة نمو المهارات في تلك الحقول المعرفية، ويكون ذلك بداية طور جديد، وهكذا دواليك.
ولا تتوقف السيرورة النمائيةأبدا، إذكثيرا ما يجد المرء نفسه أمام مهمة جديدة تتطلب معالجتها توظيف المهارات المكتسبة في بعض الميادين التي لم يعتد على التعامل معها بدرجة كافية، وهنا يجد نفسه مضطرا إلى صقل تلك المهاراتوالاعتياد على تطبيقها من أجل تعميماستعمالها على الرغم من أن الظروف التي تحيط به لا توفر له من أسباب الدعم والمساعدة ما يكفي لتحقيق هذه الأهداف. ويؤدي الجهد المبذول لصقل المهارة وتعميم استعمالها إلى تشكل بنية جديدة من المهارات، وعندئذ تكونالشروط المعرفية قد تهيأت لارتفاع المستوى الأمثل وانفتاح الفرد على أفق جديد.يمكن القول بناء على ذلك إنه يتعين على الفرد أن يُعِدّ لكل حقل من الحقول المعرفية التي يقتحمها لأول مره بنية خاصة من المهارات تتناسب مع الحقل الجديد.وتتحدد درجة تعقد البنية الجديدةبطبيعة المستوى الأمثل المتاح.
يلعب المستوى الأمثل دورا مهما في عملية النمو، فهو الذي يحدد ما يمكن للفرد أن يتعلمه، ويحدد المهارات التي يمكنه اكتسابها،ويتحكم في القدرة على تطبيق قواعد التحويل الخمس، وينبئ بالمرحلة النمائية التي يمكن للفرد ولوجها. فإذا كانت المرحلة الأخيرة من الطور الأول، مثلا، هي التي تمثل المستوى الأمثل بالنسبة لطفل في الرابعة أو الخامسة من العمر، فسيكون باستطاعة هذا الطفل أن يتمثل دور الطبيب، ولكنه لن يكون قادرا على التنسيق بين المهارات التي تؤهله لتمثل مختلف الأدوار من أجل إدراك علاقة التفاعل بينها. وكذلك الحال بالنسبة لقواعد التحويل الأربع الأخرى، فإن إمكانية تطبيقها من أجل إحداث نقلة في بنية المهارات تتحدد بطبيعة المستوى الأمثل في مرحلة معينة من المراحل النمائية. فإذا كان الطفلفي بداية طوره النمائي الثانيقد اكتسب القدرة على تطبيق قاعدة التأليف على مستوى الأدوار للخروج بفكرة التفاعل بينها، فإنه لن يكون قادرا على تطبيقهاخلال تلك المرحلة على مستوى التفاعل بين وحدات الأدوار المتفاعلة التي تم بناؤها،ولذلك تظل كل وحدة من وحدات الأدوار المتفاعلة منفصلة عنبعضها البعض. تمثل كل وحدة من وحدات الأدوار المتفاعلة في المرحلة الأولى من الطور الأول نسقا من التمثلات. ولن يتمكن الطفل من التأليف بين الأنساق التمثلية إلا بعد مضي حوالي ثلاث أو أربع سنوات، أي بعد أن يكتسب القدرة على بناء نسق الأنساق التمثلية الذي يضاهي المفهوم المجرد.
وهكذا، فإن كل مستوى أمثل جديد يجعل الفرد أمام تحديات جديدة، لأنه يرفع سقف المطالب فيما يتعلق بالقدرات التي يتعين على الفرد اكتسابها ليكون قادرا على تطبيققواعد التحويل الخمس. ذلك لأن تطبيق قواعد التحويل من أجل تغيير بنية المهارات الأكثر تعقيدا يتطلب مجهودا أكبر من المجهود الضروريلتغيير بنية المهارات الأقل تعقيدا، ولذلك يعجز الفرد على تطبيقها في بداية كل مرحلة جديدة. ومع مرور الوقت يرتفع العجز تدريجيا، ويبدأ بتطبيق القواعد البسيطة كالتعويض والتمييز والتركيز إلى أن يكتسب القدرة على التنسيق والتأليف. ولا تتشكل هذه القدرة إلا بعد أن تظهر مقومات المستوى الأمثل الجديد في أفق قريب المدى.
يخضع النمو المعرفي، من وجهة النظر هذه، لإكراهات المستوى الأمثل لا لإكراهات الذاكرة القريبة المدى.. وتجدر الإشارة إلى وجود علاقة بين المستوى الأمثل وعامل السن: ففي كل مرحلة من مراحل العمر يتشكل المستوى الأمثل من جديدفي نفس الفترة الزمنية على وجه التقريب لدى جميع الأفراد العاديين الذين ينتمون إلى نفسالفئة العمرية والذين يعيشون في ظروف اجتماعية متماثلةـ ويمر جميع أفراد الفئة بنفس المراحل، وتحدث كل طفرة في فترة محددة من فترات العمر بالنسبة إليهم جميعا. تحدث الطفرة الأولى لدى الأطفال في السنة الرابعة من العمر، وتحدث الطفرة الثانية في السنة السادسة، وتأتي الطفرة الثالثة في حوالي السنة الحادية عشرة من العمر. يتطابق هذا التحقيب مع التحقيب الذي اقترحه كل منروبي كيس Case وجون بيغس Biggs وغيرهما (Siegler,. 1997). وتظهر الطفرات لدى المراهقين والراشدين في حوالي السنة الخامسة عشرة، والتاسعة عشرة، والخامسة والعشرين Fischer. 1984 . p. 51)). وفي أعقاب كل طفرة تزداد بنية المهارات قوة وفعالية، ويرجع الفضل في ذلك إلى انبثاق المستوى الأمثل الجديد في الأفق القريب.
ومن المزايا المترتبة عن ازدياد درجة تعقد بنية المهارات المصاحب للطفراتاتساع الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى. ذلك لأن الذاكرة النشيطة تصاب بالإتخام في نهاية كل طور من الأطوار النمائية بسبب تضاعف عدد الوحدات أو العناصر المعرفية التي يتعين على الفرد معالجتها في آن واحد. ففي نهاية الطور الأول، مثلا، تزداد قدرة الطفل على تمثل الوقائع، فينتج من التمثلات ما لا يستطيع التحكمفيه، ويزداد الضغط على الذاكرة القريبة المدى.ذلك أنه كلما تضاعف عدد الوحدات التي يتم إنتاجها إلا وتقلصت الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى،ويتواصل الضغط على الذاكرة النشيطة إلى أن تستنفذ طاقتها. وعندما يصبح الفرد قادرا على التأليف والتنسيق بين مجموعة من الوحدات يتحرر جزء مهم من حيز الذاكرة القريبة المدى لفترة من الزمن، ثم إنها لا تلبث أن تصاب بالإتخام من جديد كلما ازداد الضغط عليها. وعندما يتمكن الفرد من التنسيق بين التمثلات في إطار نسق متكامل يتحرر جزء من حيز الذاكرة النشيطة مرة أخرى، ثم تصاب بالإتخام عندما تتكاثر الأنساق التي تشكلت على ذلك النحو. وعندما يتمكن الفرد من اختزالأنساق التمثلات في مفهوم مجرد تتسع طاقتها الاستيعابية من جديد، حيثيتشكل النسق الكلي الذي يساعد على تحريرها، وهكذا دواليك. يدل ذلك على وجود علاقةبين الذاكرة القريبة المدى والمستوى الأمثل. يتوقع في ضوء هذه النظرية أن تزداد قدرة الذاكرة القريبة المدى كلما ارتفع المستوى الأمثلوكلما ازدادت درجة تعقد بنية المهارات في كل مرحلة من المراحل النمائية. يقول فيشر وبيب بهذا الصدد(Fischer and Pipp. 1984, p. 71):
 »إن ارتفاع المستوى الأمثل يزيد من قدرة الفرد على معالجة المعلومات، لكن ازدياد القدرة لا يترتب عن الزيادة في كمية المعلومات التي يتم الاحتفاظ بها في الذاكرة النشيطة، بل عن التغير الحاصل في طبيعة البنية التي يمكن التحكم فيها. إن بروز المستوى الأمثل الجديد يمنح القدرة للفرد على إعادة تنظيم مهاراته بطريقة أكثر فعالية. وهكذا، فإن حصول نقلة في المستوى الأمثل يزيد من موارد الذاكرة، لأن المستوى البنيوي الجديد يؤدي إلى معالجة المعلومات بفعالية أكبر «    
تتضمن هذه الفقرة إشارة إلى نظرية كيس Case المتعلقة بنمو الذاكرة القريبة المدى. يبدو أن فيشر وزميله يتفقان معه حول نقطة واحدة على الأقل، وهي أن قدرة الذاكرة القريبة المدى تنمو مع مرور الزمن، ولكنهما يختلفان معه فيتفسير هذه الظاهرة. فبينما يرى كيس أن الزيادة في فعالية الذاكرة القريبة المدى تتجلى من خلال قدرة الذاكرة على استيعاب عدد أكبر من المعلومات في كل مرحلة جديدة، يعتقد فيشر وزميله بيب Pipp أن الأمر لا يتعلق بكمية المعلومات بل بكيفية تنظيم المهارات. وليس معنى ذلك أن كيس لا يأخذ بعين الاعتبار الجانب الكيفي في عملية النمو، فقد سبقت الإشارة إلى مدى أهمية مبدأ دمج البنيات في نظريته، وهو ما ألح عليه فيشر بدوره في حديثه عن مبادئ التحويل. والفرق بين فيشر وكيس هو أن هذا الأخيريفسر عجز الذاكرة القريبة المدى بتزايد كمية المعلومات التي يتعين على الفرد معالجتها في لحظة واحدة، ويرتفع العجز عندما يكتسب القدرة على دمج عمليات معالجة المعلومات بعضها مع البعض الآخر، مما يؤدي إلى اتساع الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى، فيرتفع مستوى الأداء؛بينما يرى فيشر أن الفرق بين البنية الجديدة والبنية السابقة لا يكمن في كمية المعلومات التي يمكن لهذه البنية أو تلك أن تستوعبها،بل في درجة الفعالية في معالجة المعلومات التي يرسم المستوى الأمثل الحدود القصوى التي يمكن أن تصل إليها في كل مرحلة نمائية.
خلاصة
على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أفكار كل من فيشر وكيس وغيرهما من البياجيين الجدد ثمة نقاط تقاطع ذات معنى بينهم. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أنهم ينطلقون جميعا من مرجعية مشتركة. ترجع جذور أفكارهم جميعا إلى بياجي وعلم النفس المعلوماتيوعلم النفس الفارقي الذي جعلهم يأخذون بعين الاعتبار الفروق الفردية في النمو ويحاولون تفسيرها. ويستطيع المحلل أن يلمس في أعمال بعضهم إلى أي حد كان تأثير عالم النفس السوفياتي فيكوتسكي Vygotskyسائدا وقويا. لقد أمدهم هذا المفكر الذي سبق عصره بتصوراته وأفكاره ببعض المفاهيم الأساسية التي مكنتهم من إدراج عوامل المحيط في معادلات النمو والتعلم.
ومع أن هؤلاء الباحثين ينطلقون جميعا من أرضية واحدة فإنهم تعاملوا معها بطرق مختلفة، وتأثروا بها بدراجات متفاوتة. وهذا شيء طبيعي، وهو ما يفسر نقاط التلاقي والتقاطع والاختلافبينهم. فهم يعتقدون مثل بياجي أن متغيرات السن والنضج ترسم لقدرة الطفل على معالجة المعلومات في كل مرحلة من مراحل العمر حدودا لا يمكنه تجاوزها،وتحدد بذلك قدرة الفرد على اكتساب المهارات والتعلم. ويرون جميعا أن الإكراهات التي تفرضها عوامل السن ومستوى النضج الفيزيولوجي تخفوطأتها مع مرور الزمن، وتزداد القدرة على التعلم واكتساب المهارات. ولكنهم يختلفون في تصورهم لآليات النمو، حيث ركز كيس على أهمية الدور الذي تلعبه الذاكرة القريبة المدى، بينما أولى فيشر أهمية خاصة لمفهوم المستوى الأمثل. وقد يرجع هذا الاختلاف إلى تباين تقديراتهمالمدى أهمية الدور الذي تلعبه كل من العوامل الفيزيولوجية وعوامل المحيط في السيرورة النمائية. وما يمكن ملاحظته بهذا الصدد هو أن فيشر يولي أهمية كبيرة لعوامل المحيط التي يختزلها مفهوم المستوى الأمثل الذي أخذه عن فيكوتسكي. إن هذه العوامل هي التي تلعب الدور الرئيسي في تنامي قدرة الذاكرة القريبة المدى في نظرية فيشر،بينما تظل هذه العوامل ثانوية في نظرية كيس بالمقارنة مع المكانة التي تحتلها العوامل الفيزيولوجية فيها. ولذلك نجد كيس يميل أكثر إلى الرأي القائل بأن النمو يحصل في الغالب بطريقة تلقائية، ويميل بالتالي إلى تمجيد التعلم الذي يرتكز على مبدأ التوجيه الذاتي، ويقلل من أهمية دور الراشدين في عملية النمو والتعلم، ويرى، علاوة على ذلك، أن بإمكان الفرد أن يعمم استخدام المهارة المكتسبة ليشمل جميع الحقول المعرفية. وفي المقابل يلح فيشر على أهمية الدعمالذي يتلقاه الطفلمن الراشدين، ويعتقد أن لكل حقل من الحقول المعرفية بنية خاصة من المهارات. ولعل التباين في تقدير أهمية الدور الذي تلعبه كل من العوامل الاجتماعية وعوامل النضج الفيزيولوجي في السيرورة النمائية هو ما يفسر اختلاف تصوراتهما لسيرورة النمو العقلي المعرفي، حيث إنها تأخذ شكلا خطيا تصاعديا في نظرية كيس، بينما تأخذ شكل شبكة معقدة في نظرية فيشر.
 
 

0 commentaires

إرسال تعليق